أنا من عشاق فصل الشتاء، برده ومطره، لي فيه ذكريات عزيزة سرعان ما تعود مع أول قطرة مطر. نحن في بيت العائلة نلتف في سهرتنا حول مدفأة الفريدمان، نشوي الكستناء أو نقحمش كسرة خبز أو فلقة جبن نابلسي. البرتقال فاكهة الشتاء، نختار الحبة الكبيرة غامقة اللون ونعطيها للوالد يقشرها لنا مع توصية بأن نستخدم أسلوب الاختيار عند شراء البرتقال من المحل (نقّيها زي ما بتحب تاكلها).
أمي، أحياناً، تذهب الى غرفة نومها وتعود حاملةً كيس المكسرات والمخلوطة، تكيل لكل منا حصته بفنجان القهوة الشفاف المفلطح، كان هذا الفنجان هو الرائج في ذاك الزمان. المطر له صوت يرقع على الاسبست وأثناء انسيابه على الأدراج.
في إحدى سنوات التسعينات جاء شتاء قارس أثلجت فيه ثلاث مرات، فاض الينبوع أسفل مسجد الروضة ونزلت مياهه الى الشارع، كانت سنوات بركة، أصوات الرعد والبرق تزلزل الأرض، صاعقة ضربت شجرة مجاورة سمعنا صوتها عندما كنا نتناول قلاية بندورة على طبلية صنعها الوالد من الألمنيوم لتبقينا في غرفة الجلوس وتجنبنا السفر الى المطبخ في مثل هذه الأيام.
اليوم أحضرت بناتي من المدرسة، تماماً كما كان يفعل أبي أو عمي أبو فراس في طقس مثل هذا، يطوف على مدارسنا ويأخذنا بسيارته الى البيت. في بعض الأحيان نعود تحت المطر، نصل البيت وقد اخترقت المياه ملابسنا وأحذيتنا.
أتمنى عند عودتي اليوم الى البيت أن أجد جاط شوربة العدس الساخنة مع عصرة ليمون فوقها وخبز جافر لأفتّه في الجاط مع زيتون أخضر وقرن بصل أخضر أو فجل مقرمش، شوربة العدس جزء من تقاليد الشتاء، تعدّها زوجتي على طريقة أمي أو أمها. نفس الطعم يذكرني أنني تناولتها مرة في بيت معلمتي وصديقة والدتي الست نجاة في يوم مثل هذا اليوم. لا يزال طعمها في فمي.
أخبار التلفزيون الاسرائيلي على السابعة ليلاً (السابعة ليلاً في تلك الأيام في ذلك الزمان كانت منتصف ليل)، ننتظر بشغف فقرة الحالة الجوية، ثم ننقلب الى التلفزيون الأردني، نتابع الأخبار وننتظر الحالة الجوية. نهاية الأخبار هي موعد النوم، نقف أمام المدفأة لنجمع المزيد من الدفء، في بعض المرات اصطلى بنطالي (من حرارة المدفأة)، وما إن تكتنز ملابسي بكثير من الحرارة أركض الى السرير المجهز سلفاً لكي أندس فيه. لحاف الصوف ووسادة الصوف وفرشة الصوف هي مكونات السرير في ذلك الوقت. ننام على أصوات الرعد والبرق، وقد تنقطع الكهرباء بضع ساعات نتيجة عاصفة أو صاعقة برق، فيشعل لنا والدي الشنبر لوكس الغاز.
نصحو من نومنا في الساعة السادسة صباحاً، نتجمع في غرفة الجلوس ووالدي يحاول المحافظة على القهوة ساخنة بوضعها على طرف المدفأة انتظاراً لوالدتي التي تُجهز نفسها للإنطلاق الى مدرستها في قرية الفندق المجاورة لقلقيلية. بعضنا يلبس أمام المدفأة، بعد تدفئة الملابس وتبخير الرطوبة منها.
الصف مكتظ بالطلاب، حرارة أنفاسهم كفيلة بتدفئة الصف، لكن بعض الأساتذة يتضايقون من رائحة الأنفاس فيطلبون فتح الشبابيك، في أيام الشتاء الغزيرة لم يكن هناك فرصة (استراحة) بعد الحصة الثالثة، كنا نستريح في الصف، ويحضر أبو سامر (مسؤول المقصف المدرسي) الى الصف معه كرتونة مصفوف فيها عشرات أنصاص الفلافل ليعرض على الطلاب شرائها. ويُتبعها بجولة أخرى للبسكويت المشلح مع رأس العبد. مصروفي بالمدرسة كان نصف شيكل، لعله ازداد في المرحلة الثانوية ليصبح شيكلاً واحداُ فقط.
أعود الى البيت جائعاً، أفتح الثلاجة لأكل ما فيه النصيب، أحياناً أجد صحناً فيه بقية من غداء الأمس فألتهمه بارداً، وأحياناً أجد بقية فطيرة القزحة أو الحلبة أو النمورة على الطاولة فأقضي على آخرها ان استطعت.
تعود أمي لتعد لنا الطعام، ونجتمع على الغداء من الجديد، لنعيد ما قمنا به يوم أمس.
أيام الشتاء جميلة بما فيها من دفء واجتماع والتفاف.. نتقاتل على المدفأة ومكان الجلوس، ومن سيتحكم بالتلفزيون…