تنظر الجامعات العربية بعين الغيرة والحسرة إلى المواقع المتقدمة في التصنيفات العالمية المعروفة للجامعات ومؤسسات التعليم العالي، وتتمنى الجامعات أن تدخل قائمة أفضل 500 جامعة عالمية أو أن تقف على عتباتها، لكنها وللأسف لا تضع لنفسها خريطة طريق تصل في نهايتها الى تلك المواقع المتقدمة.
هذا المقال ليس لجلد الجامعات ولا الدول العربية، وإنما لتسليط الضوء على نقاط الضعف وأهم الخطوات التي يمكن أن تؤدي في النهاية للوصول إلى مراتب أفضل الجامعات العالمية، ولو فرضنا جدلاً أن إمكانات الجامعات العالمية (الأوروبية والأمريكية) تفوق استطاعتنا نحن العرب، إلا أن مجرد العمل والاجتهاد من أجل الوصول إلى تلك التصنيفات سيؤدي إلى تطوير نقاط الضعف التي تحول دون وصول الجامعات العربية إلى العالمية.
تعتمد التصنيفات العالمية على معايير عديدة وبأوزان مختلفة، ولكن أهم هذه المعايير وأعلاها وزناً في عملية التصنيف هو البحث العلمي المحكّم والمنشور في مجلات عالمية ذات معامل تأثير Impact Factor، وأفضل تلك الأبحاث هي الأبحاث التي تحصل على أكبر عدد من الاقتباسات لأبحاث أخرى. مما يعني أن البحث المنشور له قيمة علمية عالية جعلته مرجعاً لأبحاث لاحقة في نفس مجال البحث.
الجدول التالي يبين معايير التقييم المعتمدة في تقييم التايمز العالمي THE:
المصدر: الرابط
ومما هو واضح في هذا الجدول فإن معظم المحاور تقيس أداء الجامعات في البحث العلمي بشكل مباشر، وفيما يتعلق بالتعليم، فإن جزءاً من هذا المحور يعكس أيضاً تقييماً غير مباشر لأداء الجامعات في البحث العلمي. مما يعني أن أهم معيار لتقييم الجامعات هو انتاجها البحثي من ناحية الكم والنوع.
غُصت في الفترة الماضية باحثاً عن منحة لدراسة الدكتوراه في إحدى الجامعات الأوروبية، وتُقسم المنح إلى نوعين، النوع الأول هي المنح المبرمجة والمقدّمة من الحكومات أو المؤسسات المانحة، أما النوع الثاني فهو المنح التي تكون ممولة من خلال المشاريع البحثية، وهي الأكثر شيوعاً في أوروبا، حيث تحصل الجامعات على تمويل من القطاع الخاص أو الحكومي بغرض إجراء دراسات في مجال محدد مثل الصناعة أو الخدمات. فتجد أن عدداً من الجامعات البريطانية تحصل على تمويل من شركة أو قطاع تجاري محدد بهدف إجراء بحث لتطوير منتج أو خدمة أو القطاع ككل، فتستفيد الشركات أو الدولة من هذه الأبحاث (لأن نتائج تلك الأبحاث يتم الاعتداد بها والاستفادة منها فعلاً وليس ورقياً) كما وتحصل الجامعات على جزءٍ كبير من تمويلها من خلال تلك الأبحاث، وتقدم فرصاً تعليمية لمواطنيها من خلال عملهم على إنجاز هذه الأبحاث.
تعيش الجامعات العربية بمعظمها في جزر منفصلة وبعيدة عن قطاع الصناعات والأعمال، فتجد الجامعات العربية منهمكة في التعليم الأكاديمي، وتستقطب الطلاب وتفتتح البرامج الجديدة وتبتعد كل البعد عن التركيز على البحث العلمي، كركيزة من ركائز تطوير التعليم العالي. وإضافة لذلك تجد أن الجامعات العربية فيما بينها تتنافس تنافساً سلبياً لنيل أوسع حصة من سوق التعليم، وتُضيف أعداداً متزايدة من البطالة بين خريجيها.
إن الجامعات العربية، والتعليم العالي عموماً في العالم العربي لن ينهض إلا بتحالف حقيقي بين الصناعة والجامعات، بحيث تخصص المصانع والمؤسسات الحكومية وقطاع الخدمات والصحة جزءاً من ميزانيتها لإجراء عمليات البحث والتطوير في الجامعات وبالشراكة مع طواقم الجامعات البحثية والأكاديمية، كما يجب أن تسعى الجامعات إلى تنويع مصادر دخل ميزانيتها من خلال تلك المشاريع المختلفة وأن تخصص لذلك الكفاءات المهنية والدعم اللوجستي لكي تقنع الصناعات أنها على قدر المسؤولية وأن توصياتها ونتائج أبحاثها ليس حبراً على ورق وإنما ستسهم حقاً في تطوير تلك الصناعات.
كما أن الجامعات والباحثين العربي بحاجة إلى الانفتاح على الجامعات والباحثين الأوروبيين والعالم بشكل عام، ولعل توفر البنية التحتية من شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الأكاديمي مثل ResearchGate.com وغيرها سوف تساعد في إنشاء علاقات وتعاون في مجالات البحث العلمي. وكثير منا تابع المنح المتوفرة للتبادل الأكاديمي والبحثي بين أوروبا والشرق الأوسط من خلال مشاريع إيراسموس وتمبوس وغيرها، وهي مشاريع تهدف لتشجيع التبادل العلمي والبحثي بين أوروبا والعالم. فلماذا لا نستفيد نحن العرب من هذه المنح بالشكل الكامل لتطوير البحث العلمي في بلادنا.
إن التعاون مع الباحثين الأجانب سوف يؤدي الى تعزيز قدرة الجامعات على الانتشار، وإن قيام بعض الجامعات القادرة مادياً على استضافة باحثين أجانب فيها لهو شيء إيجابي إذا ما كان القصد فيه نقل المعرفة وليس شراء الخدمة. لأن الموارد المخصصة للتعليم العالي تنحسر في البلاد العربية شيئاً فشيئاً خاصة مع ازدياد معدلات البطالة وتراجع الاقتصاد وإثقال الميزانيات بمصاريف أساسية أهم من التعليم العالي بنظر الحكومات.
أتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي أرى فيه جامعات عربية عديدة تحتل مراكز عالمية في أهم التصنيفات العالمية، وأن يكون للبحث العلمي في العالم العربي أكبر الأثر في نهضة الشعوب والمجتمعات والصناعات والاقتصاد.